تشجيع الاستثمار في البحث العلمي الزراعي في الأردن ضرورة وطنية لتحقيق الأمن الغذائي والاستدامة
في ظل التحديات المتزايدة التي تواجه القطاع الزراعي في الأردن، من شحّ المياه وتغير المناخ إلى تقلبات الأسواق العالمية، يبرز الاستثمار في البحث العلمي الزراعي كأحد أهم الأدوات الاستراتيجية لضمان الأمن الغذائي وتعزيز الاستدامة الاقتصادية.
تشير بيانات المركز الوطني للبحوث الزراعية إلى أن الأردن بدأ مسيرته البحثية الزراعية منذ عام 1958، وتطورت هذه الجهود لتشمل اليوم أكثر من 20 محطة بحثية متخصصة في مختلف المحافظات، تعمل على تطوير أصناف مقاومة للجفاف والملوحة، وتحسين إدارة الموارد الطبيعية، وتبني تقنيات الزراعة الذكية مناخياً.
وفي هذا السياق، يشكّل بنك البذور الوطني الذي أُنشئ حديثًا في المركز الوطني للبحوث الزراعية إضافة نوعية للمنظومة البحثية، إذ يهدف إلى حفظ الأصول الوراثية المحلية وتوثيقها، وضمان استدامة التنوع الحيوي الزراعي. ويُعد هذا البنك أداة استراتيجية لتطوير أصناف جديدة أكثر قدرة على التكيف مع التغيرات المناخية، كما يتيح للباحثين والمزارعين الوصول إلى موارد وراثية أصيلة يمكن البناء عليها في برامج التحسين الوراثي والإنتاج المستدام.
كما يبرز مختبر الأنسجة النباتية كأحد المرافق البحثية الحيوية التي تحتاج إلى تحديث وتوسعة، نظرًا لأهميته في إكثار النباتات وإنتاج أصناف متكيفة مع الظروف القاسية مثل الجفاف والملوحة وارتفاع درجات الحرارة. تطوير هذا المختبر وتزويده بالتقنيات الحديثة سيمنح الباحثين القدرة على تسريع إنتاج أصناف محسّنة، ويعزز من تنافسية الأردن في مجال الابتكار الزراعي.
وهنا تبرز الحاجة الملحّة إلى إيجاد مظلة وطنية موحدة للبحث العلمي الزراعي، تجمع تحتها الجامعات والمراكز البحثية والمؤسسات ذات العلاقة. هذه المظلة ستسهم في توحيد الأولويات البحثية، وتنسيق الجهود بين مختلف الجهات، وتجنب الازدواجية في المشاريع، بما يضمن الاستخدام الأمثل للموارد المالية والبشرية. كما ستتيح هذه المظلة تعزيز فرص التمويل المشترك، وتوجيه الاستثمارات نحو مشاريع استراتيجية ذات أثر وطني، إضافة إلى تمكين الباحثين من تبادل الخبرات والبيانات، وخلق بيئة بحثية أكثر تكاملاً وفاعلية. إن وجود إطار وطني موحد للبحث العلمي سيعزز من قدرة الأردن على الاستجابة للتحديات الزراعية والمناخية، ويضاعف من مخرجات الابتكار، ويجعل القطاع البحثي أكثر جاذبية للشركاء الدوليين.
من جهة أخرى، يؤكد خبراء أن نسبة الفاقد الغذائي في الأردن تصل إلى نحو 30% من الخضار والفواكه قبل وصولها إلى المستهلك، وهو ما يعادل خسائر بمئات الملايين من الدنانير سنوياً. الاستثمار في البحث العلمي التطبيقي، مثل تطوير سلاسل تبريد منخفضة الكلفة أو تحسين تقنيات ما بعد الحصاد، يمكن أن يقلل هذه النسبة بشكل كبير، ويعزز القدرة التنافسية للمنتجات الأردنية في الأسواق الإقليمية والدولية.
كما أن نصيب الفرد من المياه في الأردن لا يتجاوز 60 متراً مكعباً سنوياً، مقارنة بالخط العالمي للفقر المائي البالغ 500 متر مكعب. هذا الواقع يجعل من البحث العلمي الزراعي أداة لا غنى عنها لتطوير تقنيات ري حديثة، مثل الري المحوسب وأجهزة الاستشعار، التي يمكن أن تخفض استهلاك المياه بنسبة تصل إلى 40% مقارنة بالطرق التقليدية.
على صعيد التمويل، يبرز دور صندوق دعم البحث العلمي والابتكار الذي يموّل مشاريع تطبيقية ويشجع على تحويل نتائج الأبحاث إلى شركات ناشئة ومنتجات قابلة للتسويق. غير أن حجم الإنفاق على البحث العلمي في الأردن لا يزال محدوداً، إذ لا يتجاوز 0.6% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بمتوسط عالمي يصل إلى 2.2%. رفع هذه النسبة إلى 1% على الأقل خلال السنوات الخمس المقبلة يمكن أن يضاعف من مخرجات الابتكار الزراعي ويخلق فرص عمل جديدة للشباب.
إضافة إلى ذلك، فإن تشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص يعد خطوة محورية. فالشركات الزراعية الكبرى يمكن أن تستفيد من نتائج الأبحاث لتطوير منتجاتها، فيما يضمن الباحثون التمويل والاستدامة لأعمالهم. كما أن التعاون مع الجامعات ومراكز الأبحاث الدولية يفتح المجال أمام نقل التكنولوجيا الحديثة وتبادل الخبرات.
توصيات عملية:
- زيادة مخصصات البحث العلمي الزراعي في الموازنة العامة، وربطها بمؤشرات أداء واضحة.
- تقديم حوافز ضريبية للشركات التي تستثمر في البحث والتطوير الزراعي.
- إطلاق برامج تدريبية لرفع كفاءة الباحثين وربطهم بالمزارعين عبر منصات إلكترونية.
- تعزيز الشراكات الدولية للاستفادة من التقنيات الحديثة في الزراعة الذكية.
- تشجيع ريادة الأعمال الزراعية عبر حاضنات أعمال متخصصة في الابتكار الزراعي.
- دعم بنك البذور الوطني وتوسيع مختبر الأنسجة النباتية كأدوات استراتيجية للابتكار الزراعي.
- إنشاء مظلة وطنية موحدة للبحث العلمي الزراعي لتنسيق الجهود وتعظيم الموارد.
في الختام، يمكن القول إن الاستثمار في البحث العلمي الزراعي لم يعد خياراً ثانوياً، بل هو ضرورة وطنية لمواجهة تحديات الأمن الغذائي والمياه والطاقة. الأردن يمتلك قاعدة علمية ومؤسسات بحثية راسخة، وما ينقص هو توسيع الاستثمار وتفعيل الشراكات، إلى جانب دعم البنية التحتية البحثية مثل بنك البذور ومختبر الأنسجة، وإيجاد مظلة وطنية موحدة للبحث العلمي، ليصبح البحث العلمي الزراعي قاطرة للتنمية المستدامة، ومصدراً للأمن الغذائي والاقتصادي للأجيال القادمة.