القطاع الزراعي عمود التنمية
في هذا السياق، أكد الخبير الدولي في الأمن الغذائي الدكتور فاضل الزعبي أن القطاع الزراعي يشكل أحد أهم أعمدة التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الأردن، ليس فقط لكونه مساهما أساسيا في الناتج المحلي الإجمالي، بل لأنه قطاعٌ يرتبط بشكل مباشر بحياة الناس اليومية وبأمنهم الغذائي واستقرارهم الاجتماعي.
وأضاف الزعبي، إن الزراعة ليست مجرد نشاط اقتصادي، بل منظومة حياة متكاملة تُسهم في تعزيز العدالة المكانية، وخلق فرص العمل، وتمكين المرأة الريفية، وتحفيز سلاسل الإنتاج المحلي، وهي، قبل كل ذلك، صمام أمان اجتماعي يحافظ على التوازن بين الريف والحضر، ويحد من النزوح الريفي المتزايد الذي بات يُحدث اختلالات ديموغرافية واقتصادية مقلقة في السنوات الأخيرة.
وزاد: “رغم وضوح أهمية هذا القطاع، فإن العلاقة بين القطاعين العام والخاص ما زالت تتسم بطابعها التقليدي، حيث بقيت الشراكة الزراعية مجرد شعار مكرّر أكثر منها ممارسة مؤسسية حقيقية، لافتا إلى أنه بدلا من أن تكون الشراكة أداة للتكامل والتخطيط المشترك، أصبحت في كثير من الأحيان علاقة تبعية وهيمنة، يُملي فيها القطاع العام توجهاته ورؤاه، بينما يكتفي القطاع الخاص بالاستجابة أو الامتثال لما يُطلب منه، دون أن يكون شريكا في رسم السياسات أو تقييم أثرها.
ولفت إلى انه في حالات أخرى، تأخذ الشراكة شكلا بروتوكوليا سطحيا لا يتجاوز حدود الدعوات الرمزية لبعض ممثلي الجمعيات أو النقابات الزراعية لحضور اجتماعات محدودة أو ورش نقاشية لا تترك أثرا فعليا في القرارات الإستراتيجية، وهذه الصورة النمطية تعكس غيابا لثقافة الشراكة الحقيقية التي تقوم على تبادل المسؤوليات وتقاسم الأدوار في تحقيق التنمية الزراعية المستدامة
وتابع: “يُضاف إلى ذلك، أن القطاع الزراعي الأردني نفسه يعاني من تشظٍ مؤسسي واضح؛ إذ تعمل الجهات الفاعلة – من اتحاد عام للمزارعين وجمعيات إنتاجية وتسويقية ونقابات مهنية وغرف صناعات غذائية – في جزرٍ منفصلة، دون وجود تنسيق تشغيلي أو رؤية إستراتيجية موحدة، مبينا أن هذا التباعد في الأدوار والمصالح يؤدي إلى ازدواجية في الجهود، وهدر في الموارد، وإضعاف للقدرة الجماعية على التخطيط والتأثير.
وأكد أن العمل الفردي في قطاع يعتمد بطبيعته على الترابط في سلاسل القيمة، هو وصفة مضمونة لتعطيل التنمية وإبطاء التحول.
وقال: “من هنا، تصبح الحاجة ماسة إلى إعادة تعريف مفهوم الشراكة من جذوره، فالشراكة لا تعني مجرد تقاسم الأرباح أو تنفيذ مشروعات مشتركة، بل تعني تحمّل الطرفين مسؤولية مشتركة في تطوير السياسات الزراعية، وتهيئة البيئة الاستثمارية، وتوفير التمويل الميسر، وتطوير البحث العلمي، فضلا عن تبني التكنولوجيا الحديثة والرقمنة الزراعية، والتكيف مع التغير المناخي.”
وبين أن الشراكة الحقيقية تبدأ من بناء الثقة المتبادلة، وتنمو عبر تحديد واضح للأدوار، وتزدهر حين تكون قائمة على الشفافية والمساءلة وتوحيد الأهداف بين الجانبين.
ودعا إلى تحويل القطاع العام من دور “الموجّه والمشرّع” إلى دور المُمكّن والمحفّز، أي أن يركز على تهيئة البيئة التشريعية والتنظيمية والاستثمارية التي تسمح للقطاع الخاص بالنمو والمبادرة، وفي المقابل، يجب على القطاع الخاص أن يتحرر من ثقافة الانتظار وردّ الفعل، وأن يصبح شريكا مبادرا في صياغة الرؤى والإستراتيجيات، مساهما في الابتكار ونقل التكنولوجيا، لا متلقيا للدعم والتعليمات.
وشدد على أن تحقيق هذا التحول يتطلب إصلاحا مؤسسيا حقيقيا، يبدأ بإعادة هيكلة الاتحاد العام للمزارعين ليصبح كيانا ميدانيا قادرا على تنظيم الإنتاج وتمثيل المزارعين بفاعلية في صنع القرار الزراعي، مع ضرورة استحداث غرفة زراعية وطنية تضطلع بدور محوري في ربط الإنتاج بالتصنيع والتسويق، وتعمل كحلقة وصل بين المزارعين والمستثمرين والمصدرين، بما يعزز كفاءة سلاسل القيمة الزراعية من الحقل إلى السوق.
وزاد: “من خلال هذه الأطر التنظيمية الجديدة، يمكن بناء شراكات ذكية مع صناديق التمويل التنموي والشركات التقنية والجامعات ومراكز البحث العلمي، لتمكين المزارعين من تبني تكنولوجيا التكيف مع المناخ وتحسين الإنتاجية المستدامة، كما يمكن لهذه الشراكات أن تفتح آفاقا جديدة للاستثمار في مجالات الزراعة الذكية، والطاقة المتجددة في الري، وإعادة استخدام المياه، والتوسع في الزراعة المائية والرأسية، بما ينسجم مع أهداف التحول الأخضر والاقتصاد المستدام”.
وبين أنه لا يمكن إغفال دور التمويل المبتكر في تعزيز هذه الشراكة؛ إذ إن تبني أدوات تمويل جديدة، مثل الشراكات الربحية، وصناديق التنمية الخضراء، وآليات ضمان المخاطر، يخلق بيئة أكثر مرونة لجذب الاستثمارات الزراعية طويلة الأمد، ويخفف من اعتماد القطاع على المنح والمساعدات التقليدية قصيرة الأثر
علاقة عضوية بين القطاعين
وقال الزعبي إن الشراكة في الزراعة ليست علاقة بين “طالب” و”مانح”، بل علاقة بين منتِج وممكّن، بين من يعمل على الأرض ومن يصوغ السياسات الداعمة له، وحين تُبنى هذه العلاقة على التكامل لا التبعية، وعلى الرؤية لا المصلحة، تتحول الزراعة من قطاعٍ مثقل بالتحديات إلى قطاعٍ قيادي في التنمية الوطنية.
وأوضح أن ما نحتاجه اليوم هو إرادة حقيقية لإعادة صياغة مفهوم الشراكة ضمن إطار رؤية التحديث الاقتصادي 2033، التي وضعت أسس التحول الهيكلي للاقتصاد الأردني، وجعلت الزراعة أحد محركات النمو الرئيسية، فحين نُعيد تعريف الشراكة الزراعية كمنظومة تقوم على الثقة، والمسؤولية المشتركة، والابتكار، عندها فقط يمكننا أن نحقق النهضة الزراعية المنشودة، ونُعيد للريف مكانته، وللزراعة دورها الإستراتيجي في تحقيق الأمن الغذائي، والنمو الاقتصادي، والعدالة الاجتماعية، والاستدامة البيئية.